-
سيرةُ الطغاة: "فنُّ اللعب مع الأفاعي ثم الموت بلدغة سامة"
ثمّة من يؤكد أنّ الأذى الذي تسببه الأنظمة المستبدّة للشعوب لا يتغذى إلَّا من العقلانية الصارمة المُعتمدة في الحكم، وعليه فإن الحديث عن "العنف العقلاني"، بصفته سمة عضوية في تركيبة نظامٍ يتّسم بغياب الديمقراطية السياسية وسيادة النزعة البوليسية هو أمر لا بدّ منه لفهم مجرى الأمور في سوريا، إذ على الرغم من اكتسائه أشكالاً أخرى عرقية أو طائفية أو قبلية أو مناطقية، هذا العنف السياسي بجميع أشكاله: عنف النظام على الدولة والمجتمع، عنف النظام على الجماعات البشرية، وعنف الجماعات، نفسها، بعضها على بعضها الآخر، تحوَّل عبر عقود إلى قوة ضبط وعقاب، تُبرّر بشعاراتٍ مزيفة ورنانة مثل محاربة الإرهاب، ومشروعية الدفاع عن ثوابت الدولة ومُقدَّساتها ضد الأفكار والجماعات المتطرفة.
هذه المقدمة البسيطة تأخذنا باتجاه الحدث الأكثر أهمية، والذي شغل الشارع السوري مؤخراً، بشقّيه المعارض والموالي، وهو وقوف أحد أذرع نظام القمع السوري في تسويق سياسة العنف "الموجه والممنهج"، أمام محكمة ألمانية بتهمة جرائم ضدّ الإنسانية. والمتهم طبيب سوريّ يدعى علاء موسى، مارس أشكالاً من العنف على سوريين معتقلين، تراوحت من تعذيبِ سجناء إلى ضربهم على جروحهم ورشّ أطرافهم بالكحول ثمّ حرقها. وعليه يواجه الحكم بالسجن مدى الحياة. ويُذكر أن صحيفة دير شبيغل الألمانية نشرت، في وقت سابق، بأنّ المتهم، وقبل القبض عليه، تواصل مع سفارة نظام أسد ووصف المعارضين بالإرهابيين والمخربين والكلاب. وفي الحقيقة سمح هذا المبدأ القانوني بصدور حكم مماثل بالسجن مدى الحياة على ضابط سوري سابق في محاكمة تاريخية أخرى مرتبطة بممارسات النظام السوري ضد شعبه الأعزل.
من البدهيات السياسية أنه عندما نتحدَّث عن عنف السلطة المستبدّة وغياب أجهزة المراقبة والمحاسبة، وضعف محصنات الديمقراطية، وانعدام المؤسسات التي تسهر على حماية العقد الاجتماعي، فإننا نتحدَّث عن جوهر "الطاغية"، الذي لا بدّ سينتهي إلى ما انتهى إليه الطبيب والضابط آنفا الذكر، اللذان وقعا في شرّ أعمالهما، ما ينقلنا إلى استذكار كلام فرانك ديكوتر، أستاذ العلوم الإنسانية بجامعة هونج كونغ والباحث بمعهد هوفر: "بنظرة تأمل في فصول التاريخ نجد أنّ الحكم الديكتاتوري عادة ما ينتهي بطريقة مخزية. وعلى عكس أنجح القادة المنتخبين ديمقراطياً، نادراً ما يحزن على رحيل المستبدين سوى قلّة من المتطرفين". ومن الواضح للعيان أنه يقود الطاغية وأنصاره إلى هذا المصير المخزي حقيقةٌ جلية وهي: أنهم كمنظومة فاشية تعيش في الخيال تنسى أن الواقع هو ما يقوم بنسج خيوط نهايتها. خذ على سبيل المثال، الديكتاتور معمر القذافي الذي لم يكن لسياساته الرعناء أن تصل إلى ما وصلت إليه من تجاوز لكلّ الحدود لولا كثرة المنافقين من حوله، مع هذا مات وحيداً وذليلاً بعدما حوصر في ماسورة صرف صحي في محاولة للهرب من الثوار، وعندما توسّل إليهم مطالباً بالإبقاء على حياته، ضربوه وجردوه من ملابسه وعاملوه معاملة مهينة قبل أن يطلقوا النار عليه عدّة مرات. مصيرٌ ليس بعيداً عن نهاية ستالين الذي وجد ملقياً على الأرض، غارقاً في بوله، بعدما انفجر وعاء دموي في دماغه. مات عندما لم يجرؤ أحد على إزعاجه في غرفة نومه. كذلك ليس بعيداً عن مصير الديكتاتور الروماني نيكولا تشاوشيسكو وإلينا، اللذين وبعد صدور حكم الإعدام عليهما، اقتيد الزوجان إلى فناء بالغ البرودة بجوار مبنى مراحيض ليُطلق النار عليهما. هل أذكركم أيضاً كيف عُلّقت جثث موسوليني وعشيقته كلارا وفاشيين آخرين، من الأقدام، في إحدى ساحات مدينة ميلانو؟
لا شك أنّه من أكثر الاستنتاجات الراهنة تعقيداً في سوريا، تلك التي تتحدّث عن انتصار الأسد ونظامه الفاشي، لتصف حالة متهلهلة ضاعت فيها الحدود بين المفاهيم، في مجتمعٍ يعيش وفق أيديولوجيا الإلغاء والمحاصرة والإبادة. ونتيجة لفقدانه الشرعية التي تُسوِّغ بقاءه، وتضمن طاعة الناس له، استخدم النظام السوري سياسة العصا والجزرة، ووضع السوري بين الخوف والرجاء، الخوف من تسلّط وبطش الحاكم، والرجاء في مكرماته وأعطياته. فالشعبُ السوري، في نظره، بطونٌ تُملأ أو ظهورٌ تُجلد. ولعل أدلّ مثال على هذا التصريحات الاستفزازية التي أدلت بها واحدة من أبرز مطبّلي النظام السوري، لونا الشبل، التي وعبر لقائها مع قناة روسيا اليوم قالت: "إن الشعب السوري لن يموت جوعاً ولا برداً، وإن الحكومة السورية استطاعت كسر الحصار المفروض على سوريا، وتأمين المتطلبات الأساسية للمواطن". وبالتساوق مع هذا الانفصام أكدت منظمة "كير" الإنسانية، وفاة ثلاثة أطفال سوريين إثر تعرضهم للبرد القارس، فيما تعرض مئات الآلاف من الأشخاص "لخطر كبير" في أعقاب عواصف شتوية شديدة تضرب سوريا والدول المجاورة، وحذرت المنظمة في تقرير لها من أنّ "هجمة العواصف الشتوية الشديدة ستؤدي إلى تفاقم الوضع المعيشي للنازحين السوريين، خاصة الذين يعيشون في لبنان والأردن، حيث من المتوقع أن تنخفض درجات الحرارة أقل مما كانت عليه في أربعين عاماً، لتصل إلى 14 درجة مئوية تحت الصفر".
على صعيدٍ مواز قالت المتحدّثة باسم برنامج الأغذية العالمي "جيسيكا لوسون" لوكالة فرانس برس إنّ "المزيد من السوريين ينزلقون إلى براثن الجوع والفقر وانعدام الأمن الغذائي أكثر من أي وقت مضى"، وحذرت منظمة الإغاثة الألمانية "فيلت هونجرهيلفا" المعنية بتقديم المساعدات الغذائية من أنّ عدد الأشخاص الذين يعتمدون على المساعدات الإنسانية في سوريا سيتزايد بشكل كبير. دعك من هذا كله. ألم تسمع تلك "الناطقة باسم السوريين" بوفاة شابة جامعية في مناطق سيطرة النظام السوري، تدعى بتول مدين جديد. شابة لم تمت في المخيمات ولا في المعتقلات، بل ماتت داخل منزلها في إحدى قرى اللاذقية، حيث أكد الطبيب الشرعي أن سبب الوفاة سكتة قلبية سببها البرد الشديد.
بطبيعة الحال لا يصعب إثبات أنّ استمرار النظام السوري ليس خطراً على السوريين فحسب، إنما على الاستقرار الإقليمي والدولي، ولا يصعب أيضاً إثبات أنه عصيٌّ على إعادة التأهيل، وكمصير كل الطغاة سيمضي ببطء إلى مصيره المحتوم، ومهما استغرق من وقت. إنها حتمية تاريخية وقاعدة أخلاقية لكل طاغية يتقن فنّ الرقص على الحبال، واللعب على الكلام، والضحك على الذقون، والمشي بحذر فوق رؤوس الأفاعي إلى أن ينتهي بلدغة سامة وقاتلة. دعونا نعود بالذاكرة قليلاً: بعدما قُتل علي عبد الله صالح ومُثّل بجثمانه، كلّ ما تبقى من ذكراه صورة وجه عابس مستكين، باهت بلا ملامح ولا تعابير، وعينين غائرتين تخفيان نظرة منكسرة تحمل معها كلماتها الأخيرة إلى الأبدية؟. وهل ننسى أيضاً اللحظات الأخيرة في عملية إعدام الرئيس العراقي صدام حسين، وبينما كثير من مناصريه يرون في ثباته "الإيماني" لحظة شجاعة، يرى آخرون فيها عجرفة لم تمت حتّى النفس الأخير، نفس المستبد. على المقلب الآخر هل يتعظ الطاغية السوري من الجنرال الفرنسي شارل ديغول، الذي قال ذات رجفة تكبّر أمام ونستون تشرشل: "أنا فرنسا"، لكنه اختار أن ينحني لاحقاً لإرادة الفرنسيين، فترك الإليزيه وغادر إلى بيته الريفي ليموت هناك بهدوء، فبقي عظيماً في عيون العالم حتى اللحظة.
ليفانت - عبير نصر
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!